أعشق حابي هذا النهر الساحر الذي بلمسة منه
تخضَر الدنا، وبإشارة منه تُزهر الأرض، وأنا هنا
في أحضانه بضع أيام خارج الزمن فوق مركب عائمة كجزيرة غارقة في بحر الأفق،
ولكنها دقائق وأقترب من شاطئ الوصول
وأفارقه وتنتهي الأحلام، ليت العمر ينقضي بصحبة النهر، ليتني أعيش حرة هنا قبل أن
يسجنني الشاطئ بين أسواره، فالنيل هنا في مدن الجنوب بعنفوانه الفَتِيّ وابتسام
امواجه المتهادية، ومياهه التى تحاكى فيروزية السماء أبدية الصفاء، لا يشبه نيل
العاصمة الداكنة فهو هناك كهلاً ضحلاً كئيباً، وهناك تغوص كل الأشياء في بقع لا
لونية هائمة، بعيدةعن كل منطق وعن كل حياة.
ولكن شاطئ النيل هنا تمتلئ جنباته بذكريات العاشقين
، وتتهادى أمواجه لضحكاتهم، ويطرب هنا النخيل الحارس للشاطئين لأغاني الأطفال
اللاعبين المرحين فيحنو بأيديه على وجناتهم ، ويمسح على شعورهم الذي يشبه في سمرته
عمق النيل وأرضه، وتحاكي تمواجت شعرهم الكثيفة تموجات النيل الرائقة . وفي خضم
ترحالى بين الأحلام اقترب مني أحد عمال المركب وناداني:
-
يا آنسة لقد وصلنا إلى
الشاطئ فأين حقائبك؟فلم يعد غيرك على ظهر المركب.
حدثت نفسي متحسرة: إذاًحانت لحظة الرحيل تاركة جزيرتي
السرمدية.
وعلى الشاطئ رأيت موكباً جميلاً من عربات تجرها الخيول،
ركبت عربة مزخرفة رائعة بخيول رشيقة وقفت أمامي ، ركبت العربة وراء رجل وامرأة
يظهر من ملابسهما أنهما ذا شأن عظيم، تشاغلت بالطريق عن الاستماع إلى حديثهما وتابعت
بقلب حاسد جمال وسحر كل ما حولي .
ثم بدأت أتسمَّع لما يقولان، وقد دخل الموكب إلى معبد بجوار النهر، فقال
الرجل لرفيقته:
-
انظرى يا مليكتي إلى
المسلتين اللتين تتنافسان في ملامسة السماء وإلى هذا الصرح الهائل وإلى هذه
التماثيل الشامخة لقد صنعتها كلها تقرباً للسماء. ولتَرِ معى ما أعددت لكِ من
مفاجئة كبرى هناك.
استمر الموكب في السير بين الكباش ،ثم توقف أمام تمثال
شامخ فنظر إليها و قال:
-
أنظرى إلى هديتك يا
محبوبتى.
-
ما أجمل هذا التمثال؟
ما هذه المهابة؟ إنه كبير جداً .
-
وانظرى هنا، من يقف
فوق قدماى؟
-
إنه أنا ، ما أجملنى
أقصد ما أجمل التمثال، لكن كيف تجعلنى أقف فوق قدميك فلا ألامس إلا ركبتيك، إنى قصيرة
جداً، هذا ليس عدلاً.
-
ولكنها عادة الفنانين
هذه الأيام ، فهي مجرد حداثة في الفن صبغتها على التمثال ، وانتِ تعلمين مكانتك
بقلبى، و سأعبر لكِ عن حبى بأني سأريكِ المقبرة الرائعة التي حفرت لكِ في الوادي.
-
أتتمنى لى الموت ؟
-
أبداً، أبداً، فلتزيدك
حتحور بجمالها ولتحرسك ماعت بحكمتها.فإن كانت كل النساء حبهن كالمعابد، فأنتِ أنتِ محراب قلبي، وهيكل صلوات حبي.
ثم اقترب منها ووضع حول جيدها جعراناً فيروزياً زاد
وجهها الوضَّاء نوراً، وقال لها: لقد ازداد هو اشراقاً بجمالكِ أنتِ.
فأمسكت بيده واحتوتها في صدرها كما يحتوي حابي
أرض كِمِت ممتنة هامسة:
أيا مليكي ومليك الأرضين والتاجين، أرجو أن تذكرني دائماً حتى عند انتقالي لأرض
الغروب، وتظل حينها صلواتي تحتمي بحماك.
فوضع يده الأخرى على رأسها مباركاً واعداً:
ستظلي دائماً جميلة الجميلات الخالدة أبد الدهر، فأنتِ بعد النهاية ستظلي تجيئين
إلى العالم في إشراقة كل شمس ذائبة لتضفي على الأرض من سحرك.
نزلت من العربة واختبأت وراء أحد الأعمدة الشاهقة الرشيقة المتراصة
بكثافة كأشجار الغابات الاستوائية، فلتكن خمسون أو مئة أو يزيدون بل قل كثيرون
وكفى، فمشيت بين الأعمدة ومرَّت عيني على جدران المكان فرأيت حياة كاملة في إبداع
عظيم تحكي كل شئ وتنطق في صمت بكل الأحداث في خطوط ورسوم متآلفة ، شاهدت الرموز
المتراصة فلم أتفهم منها ما كُتب ولكني أحسست أنها تحدثني وتحكي لي، وتفصح لي أنا بأسرارها
العميقة من دون الكائنات، وتوحي لي في همس مكتوم، انتهت الأعمدة فأفضى البهو إلى
بحيرة صغيرة وسط المعبد، تحيط بها أشجار منحنية في خشوع المبتهل، وتعكس صفحة
البحيرة كل الخيالات فوقها، مددت ناظراي وراء البحيرة حيث الرياض اللانهائية، وشاهدت
ذراع حابي تلتف حول الرياض من هناك ويحنو عليها راوياً، وكأنه يحمي ابنته الصغيرة ليهبها
الخلود، ورأيت فتيات جميلات يقتربن من البحيرة القريبة ويتدلين لملء الماء، فهممت
بالاتجاه نحو احدى الفتيات لأتحدث إليها، فتعثرت قدمي في صخرة صغيرة، وارتطمتُ
بالأرض، فسمعت دبيب أقدام تتجه نحوي، ورأيت قدمين راسخين وقفتا أمامي، وذراعاً قوية
تمتد أمامي فامسكت بها ونهضت، وتأملت مَن أوقفني فإذا برجل مفتول العضلات يرتدي
شعراً مستعاراً يخفي رأسه الحليق، وعينان غائرتان يحددهما كُحلاً رشيقاً، ممسك بيديه قوساً وسهماً، وعلى وجهه هيبة الفرسان
وسألني في لهجة تريد إيقاظي وتثبيت عيناي الزائغتين: كيف دخلتي إلى هنا؟